Wednesday, May 28, 2008

-نبني لبنان اينما كان... الاّ في لبنان -2


"ناطر بَلكي عن جديد بيرجع لبنان الحلو"... قالها الفنان جاد نخله في غنوته الحزينة مجسّداً آمال شباب رحل ولم يعد، ينتظر العودة شبه المستحيلة الى لبنان الأربعينات بعدما سلك الهجرة طريقاً لبناء مستقبله وتطوير قدراته الفكرية والابداعية فيما التداعيات السياسية الاقتصادية في بلاده تكبّد اللبنانيين يومياً قهراً على ابتعاد ابنائهم وحسرة على وضع معيشي مذرٍ.
============
دنيز يمّين

ان كانت السياسة الراهنة التي لا تخدم في ممارساتها سوى السياسات التي سبقتها والقائمة على التراجع المستديم في كلّ الميادين، لا تبدو في طريقها الى الحلحلة خصوصاً انها اساساً وراء تزايد هجرة اللبنانيين، قد يمكن لاساليب اخرى ان تساعد على مكافحة هذه الظاهرة المخيفة التي تهدّد مستقبل لبنان. مقترحات سريعة لإبقاء الشاب اللبناني في وطنه، ادلى بها عضو حركة المستقلون رازي حاج حول مسعى الحركة الخاص في هذا الصدد معتبراً انه يمكن لاعادة هيكلة الادارات الرسمية من خلال ضخّها بعناصر شبابية قادرة على التأقلم مع التطور التكنولوجي من جهة وتحمّل ضغط العمل وسرعته المتزايدة من جهة اخرى ان يساهم في هذا الشأن، فضلاً عن انماء الريف وتثبيت الشباب في مناطقهم من خلال اختصاصاتهم العلمية والالكترونية وغيرها من الاجراءات التنموية الكثيرة التي تعوّقها حال عدم الاستقرار والتوتر الامني في لبنان والتي تعمل جمعيات عدة على تحقيقها في اطار مكافحة الهجرة المفرطة.

92000 مهاجر!

أرقام تقدّمت بها حركة المستقلون بالتعاون مع مديرية الامن العام حول ما يقارب 92000 لبناني (معظمهم من الشباب) هاجروا في معظمهم الى الخليج العربي منذ عام حتى اليوم. عددٌ تتفق استطلاعات الرأي الحديثة على التقارب منه ما يعزّز صدقية هذا الرقم نسبياً وما يؤكد خطورته في الوقت نفسه. صحيح ان كثرة المغتربين وتحويلاتهم المالية البالغة 5.7 مليار دولار تقف سنداً للاقتصاد اللبناني بشكل عام لكن الى اي مدى ستبقى التضحية بالادمغة الشبابية تصبّ في مصلحة ارض ليست ارضهم وووطن ليس وطنهم ومجتمع لم يكن يوماً مجتمعهم؟

تأثّر الزواج والخصوبة

سؤال اثار د. وفاء بصبوص، الاخصائية في علم السكان والديمغرافيا التي اكدت قدوم لبنان نحو مجتمع شيخ سيكلّف الدولة اللبنانية اموالاً طائلة على المدى البعيد. ظاهرة ستدوم اكثر من غيرها اعتبرت بصبوص ان من اهم مخاطرها ديمغرافياً، تأثيرها المباشر على حركتي الزواج والخصوبة. "صدمتان اجتماعيتان تصبحان امراً واقعاً مع ازمة التفاوت الجنسي بين من يهاجر من الاناث والذكور ومن يبقى منهما في لبنان، الامر الذي يؤخر خطوة الزواج اكثر فاكثر مع تأخير عملية التعارف والعشرة". كما اعزت بصبوص الصدمة الاجتماعية الثانية الى ضرب حركة الخصوبة التي من شأنها تأمين استمرارية الحركة السكانية وتبدّل المجتمع معتبرة ان انفصال الزوجان بسبب الهجرة يحول دون انجاب الاولاد او حتى تفكّك الاسر.

في اوروبا ايضاً...

الاحصاءات الرسمية غير المتوفرة عن اعداد المهاجرين لم تغظ بصبوص التي اعتبرت انه حتى في اوروبا ايضاً لا توجد ارقام مؤكدة حول مهاجريها اذ برأيها الخلاف حول مفهوم وهوية المهاجر هو من يحول دون ذلك. "لبنان بلد مفتوح منذ القدم باستقطابه جمهور وهجرة جمهور آخر منه، اما رغبة الشباب الكبيرة في الهجرة، فلا اؤمن شخصياً بها خصوصاً انها قد ترتبط بالتوق الى الحرية الاوروبية مثلاً او الانبهار بالعروض الخيالية دون احتساب تداعيات ذلك".

زاوية سياسية

اما الدكتور ميشال سبع، الاخصائي في علم الاجتماع، فعزا ايضاً انفتاح لبنان على الخارج الى اساس تشكيله، اذ لطالما اتخذ بلد الارز طابع بلد الخدمات وقليل من الزراعة والتجارة ما يؤكد قيام اقتصاده على السياحة بالدرجة الاولى كونه لا يكتفي داخلياً، الا ان ما يحدث اليوم برأي سبع يأتي ليغيّر هوية لبنان هذه، خصوصاً ان التطورات السياسية الحالية تجعل لبنان مقاوماً وممانعاً، في اشارة الى سيطرة حزب الله عسكرياً وسياسياً، ما يعكس ذلك حالة من اللااطمئنان على السواح المفترض ان يأتوا لبنان من جهة والشباب اللبناني الذي يرفض ان يكون مقاتلاً، بحسب سبع، من جهة اخرى. امرٌ لم تثني الاخصائية الديمغرافية عليه معتبرة ان الهجرة الحاصلة لا تقتصر على فئة معينة من اللبنانيين، في اشارة الى اخصام حزب الله، بل تشمل كل الفئات والطوائف ما يبعد الامر عن السياسة خصوصاً ان من يقاتل برأي بصبوص، هو مكتفٍ مادياً ما لا ينطبق على سائر الاشخاص.

وبعيداً عن السياسة يبقى الواقع الاليم سيّد الموقف في ظلّ تراجع حادّ للاوضاع السياسية والاندثار المتسرّع لمفاهيم المواطنية والانتماء والولاء للوطن الامّ، في وقت تؤمن الارض المضياف حماية واحتراماً وتقديراً لا يوفّره تراب الاجداد.

-نبني لبنان اينما كان... الاّ في لبنان -1


لطالما اقترن مصطلح "الاستقرار" بالمجتمع السليم والقادر، يربى ابناؤه بتعايش وآخاء واتحاد... سليمٌ بسلامه بعيداً عن الحروب والمعارك، وقادرٌ بقدرات سكانه العلمية والفكرية. اما في حال اندثار الشرطين الاساسيين، كما هي الحال في لبنان، فعن اي استقرار او سلام او شباب ناشطٍ قد نتكلّم؟
============
دنيز يمّين

هذا ما حدث لهم... لم يعد بإمكانهم رؤية المستقبل الزاهر الذي يحلمون به منذ الصغر يتحقق في لبنان الغد، ليس من باب التشاؤم او المبالغة اذ يقولون ذلك، بل من باب الواقعية والواقعية فقط: من الصعب لوم شاب لبناني طريّ العود شبع نظره من الدماء والحروب العشرية (كونها تطلّ علينا كل عشر سنوات تقريباً) وتردّي الاقتصاد اللبناني بفرص عمله المتواضعة و"النّقزات" الامنية المتواترة والفساد الاداري المستشري وسيطرة المحسوبيات الطائفية وقصّ على ذلك من شوائب اجتماعية اخرى اضحت جزءاً لا يتجزّأ من الواقع اللبناني المعيشي اليومي.

لا ارقام رسمية

ووفقاً لهذه المعطيات المؤسفة، وضّب الشاب اللبناني أمتعته تباعاً، بموازاة حروب رافقت ولادته وفتوّه وشبابه، فأبى ان يعيق الفشل السياسي مرحلته الانتاجية الناضجة فلجأ للولايات المتحدة الاميركية بشكل رئيسي، والبلاد العربية وفرنسا وكندا واستراليا وغيرها من الدول المتقدمة او الغنية حيث للمرء قدرٌ وقيمة!
ومن السخرية انه في وقت يتحوّل لبنان الى بلد الشيوخ والعجزة بأكثريته، حيث ان دراسة "دخول الشباب سوق العمل والهجرة منذ 1975" التي اعدّتها البروفسورة شوغيك كاسباريان، بيّنت ان 46 في المئة من الاسر لها فرد مهاجر على الاقلّ، ليس هناك من ارقام رسمية دقيقة حول عدد المهاجرين حتى الان، إما لتقصير ما من قبل الجهات المعنية او لأن اعداد اللبنانيين خارج وطنهم لا يقتصر على الذين تخلّوا عن اقامتهم وانما المتحدّرين من اصل لبناني ايضاً الذين من الصعب إحصاؤهم عبر العالم. وفي الحالتين، عجزٌ واضح عن التوصل الى نسب علمية تُقدر من خلالها خطورة المشكلة التي تحدق بالمجتمع اللبناني والتي تهدّد طبيعته السكانية والديمغرافية والانتاجية والتنموية.

وفيما 67.3 في المئة من المهاجرين عبر العالم يعملون ضمن استقرار وفّره لهم الخارج، بحسب دراسة كاسباريان التي شملت كل الاراضي اللبنانية على عينة من 18243 اسرة بما يقارب الـ83196 فرداً و15507 من الشباب العاملين فضلاً عن 20 الف مهاجر، نلحظ يومياً تشجيع كبير على الرحيل لمن بقي في بلده يتأمل بالحل السياسي اومن داق ذرعاً بحاضره مستسلماً للاوضاع الراهنة لعدم توفر امكانية مادية للسفر.

لا للبقاء!

رغبة متزايدة لدى اللبنانيين في ركوب القطار الللاعائد دلّت ارقام "الدولية للمعلومات" عليها، في استطلاع للرأي اجرته المؤسسة في كانون الثاني 2008 الماضي. فهذه الرغبة لم تقتصر على فئة طائفية واحدة كما كان جائراً في الماضي في اشارة الى المسيحيين خصوصاً، وانما طالت الطوائف جميعها هذه السنة مع ما يمزّق لبنان من خلافات سياسية ضيقة اتفق الجميع على الاشمئزاز منها، من الازمة الدستورية الى الفراغ الرئاسي فغياب الوحدة والشراكة... 39 في المئة من المستطلعين الذين تناولتهم "الدولية للمعلومات" اعلنوا عن رغبتهم في الهجرة انطلاقاً من السّنة (45 في المئة) والكاثوليك (41.2 في المئة) والموارنة (40.4 في المئة) كنسب اكثر ارتفاعاً، وصولاً الى النسّب الدنيا من الدروز (29.1 في المئة) والشيعة (31.1 في المئة) والارثودكس (33.3 في المئة). واللافت ان هذه النسب التي يقف وراءها التدهور المعيشي اللبناني المتفاقم، ليست ادنى من تلك التي احصيت بعيد حرب تموز 2006، بل تخطّتها كثيراً بعدما ارتفع عدد الراغبين في الهجرة من 15.3 في المئة مباشرة بعد العدوان، الى 39 في المئة، بعدما لم يعد للتّردد في الهروب من لبنان اي مكان في اجندة اللبنانيين.

من البديهيات...

3 ملايين ونصف المليون يشكلون بالحدّ التقريبي سكان لبنان اليوم بعد هجرة حوالي 88.035 مواطن الى الخارج بحسب ما اوردت وزارة السياحة العام 2007، لا سيما في السنوات الماضية وخصوصاً بعد الحرب التموزية، ومع ذلك نرى لبنان مثقلٌ بسكانه وفرص عملهم وامنهم واقتصادهم... فكيف كنا لنعيش في ما لو كانت مساحة ارضنا تتعدى الـ10452 كلم2 وعددنا يفوق الملايين القليلة؟
سؤال قد يصوّر طبيعة مجتمعنا الهرمة وافتقاره الوشيك للبديهيات الاجتماعية: لوحة يومية تُحفر في ذهن شباب اليوم المنفعل، ابطالها اهالٍ عصاميون منصرفون الى تأمين التدفئة من ثلوجة الشتاء وجنونه، واقفين في صفوف الافران من اجل رغيف ساخن يسدّ الجوع، متأهبين لكل مستجدّ طارئ يهدد اعيالهم...فلم على الاجيال الجديدة ان تضرص، وافرادها من جيل العلم ونواة البلاد والفئة الواعية الناشطة الفاعلة؟

قرار اللاعودة

منطق يفكّر على اساسه الراغبون في الهجرة الدائمة وفي قلبهم هاجس اقتصادي بحتة. اما شعور المواطنية فيتوارى مع رحيلهم فيما تركيبة لبنان الطائفية السياسية تتثبّت اكثر فاكثر متناسية اهمية العمل على اعادة من غادر وجذب من ينوي المغادرة، والغرب يتصيّد ادمغتنا وقوانا العقلية التي تتطوّر في خدمته على قاعدة "كلّ نبيٍّ في وطنه مهان"... ولا من يسأل.

عناد سياسي يمنع الحلّ...لا استقالة ولا انكفاء


حالة استثنائية من التأزم السياسي يدخلها لبنان بعدما اثمرت حقبة ثلاث سنوات اخيرة، فاكهة عفنة لم تجلب للبلاد سوى السوء والظلم والدماء، غير ان ما وقع قد وقع وما هو مطروح اليوم ليس توصيف للحرب التي نحن بصدد متابعة احدى فصولها العشرية، وانما استنباط سبل الخروج منها وسط "معمعةٍ" لا يُحمد الاسترسال بها.
===========
دنيز يمّين



"اذا راح الملك بيجي ملك غيرو بس اذا راح الوطن ما في وطن غيرو"... قالها الرحابنة قبل اعوام، فاستشرفوا بذلك ما يمرّ به وطنهم المشلول شللاً نصفياً، بعدما تكرّس الانقسام السياسي الثنائي فيه في حرب شوارع ضارية. اما "حاوي الوطن" فجبلٌ لا يتزعزع: لا للاستقالة.


نقطة بيضاء



بعيداً عن مطالبة المعارضة اللبنانية رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بالاستقالة الفورية "تجنباً للمزيد من التصعيد"، ان ما قد يتّخذه رئيس مجلس الوزراء من خطوة شخصية عبر تسليم مهامه لغيره من الشخصيات السنية الكريمة، قد يكون كالنقطة البيضاء في بحر السواد. ليس انطلاقاً من مطلبٍ معارضٍ، ولا تأكيداً على صحة ما قام به حزب الله في الشارع، ولا تنويهاً بالاداء الاحتجاجي الميداني، انما انطلاقاً من مبدأ ديمقراطي يسمح بمحاسبة السلطة على اساس ان من شرّع قيامها هو الشعب، دائماً اخلاصاً لبيان وزاري اشبه بقسم رئيس الجمهورية:


اي التزام؟



"ستجدون في هذا البيان تمسكاً راسخاً بالمسلَّمات الوطنية وفي طليعتها العملُ على تطبيق اتفاق الطائف"... هكذا بدأت
الحكومة اللبنانية بيانها الوزاري تموز 2005، غير ان اعتكاف الوزراء الشيعة بعد عام لم يحرّك للحكومة جفن. فهل احتُرم الطائف باحتضان المؤسسة التنفيذية للطوائف كافة؟ "إنه بيان الحفاظ على مقاومتنا الباسلة في نطاق معادلة نضالية تواجه إسرائيل"... هكذا كان حزب الله بنظر حكومة الاستقلال الا ان ما رايناه اخيراً لا يعبّر عن تبادل المقاومة والموالاة النوايا الحسنة فضلاً عن تقاذفهما الاتهامات والشتائم، التي حددّت حزب الله بالميليشيا وحكومة السنيورة بعميلة الاميركيين."انه بيان النضال الذي روته دماء الشهداء رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي ورفدتْهُ جراح مروان حمادة والياس المر، بيان الالتزام بالعمل الجاد لجلاء الحقيقة وكشف المرتكبين ومحاكمتهم"... وكلنا فخرٌ بمن ضحى بحياته في سبيل لبنان غير ان اللبنانيين خاب ظنهم بعد مرور 3 سنوات على استشهاد هؤلاء فيما بدأت اسماؤهم تجاري الكتمان فضلاً عن اسماء آخرين لحقوا بهم، دون علمٍ او خبرٍ يذكر عن آثار منفّذٍ، في بلد مخابراتي صرف! "إنه بيان العمل على زيادة معدلات النمو وخفض العجز في الموازنة ومعالجة مشكلة تراكم الدين العام"... فانقرضت الطبقة الوسطى. ان القليل الذي كان بإمكان الحكومة ان تفعله كان ليجنّب تظاهرة خطرة للاتحاد العمالي العام خلصت لما لم نخلص به حتى الان.


مصائب جمّة


هذا ايضاً ما كان سائداً في عهدي دولة الرئيس عمر كرامي، بين عامي 1990 و1992 وبين عامي 2004 و2005، حين تكرّرت استقالته الحكومية لمرّتين. سقطت حكومة كرامي في 16 ايار 1992 بعد مظاهرات في الشارع احتجاجاً على وضع اقتصادي سيء فيما تنازل عن كرسيّه في 28 شباط 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اسباب كافية لاستقالة رئيسٍ للورزاء بغض النظر عن قوة او ضعف الحكومات السابقة، غير ان ما شاب لبنان خلال الفترة الاخيرة يفوق كل اعتبار وكل ضغط خارجي، ان ما عاشه اللبنانيون اخطر بكثير: عدنا لتقنيص بعضنا البعض، خضنا حرب ضد اسرائيل وضد القاعدة، اغتيلت المؤسسة العسكرية ورجالاتنا، عدنا نتهافت على الافران...


حقيقة هي ان مشروعي البلد المتناحرين اليوم ليسا في خدمة لبنان لان ما جرى في بيروت، التي ضاقت ذرعاً من الغرق عبر التاريخ، اثبت اننا ورقة لتسويات خارجية نحن ادواتها وان ما قد يمنع السنيورة من ابعاد الكأس المرة عن كاهله ليس في يده فيما التصدي الشيعي للسلطة لن يتوانى عن تحقيق ما يتقرّر في الكواليس وان العصيان قائم لا محال.

مشهد تخدير جديد على خشبة المسرح اللبناني


حسبتُ ان مصطلحات الماضي اندثرت الى غير رجعة وان ما عايشه اهلنا واجدادنا دفن في ذكرياتهم واننا جيل "الغد"، كما يسموننا، الا انني لم اكن اسأل في السابق عن هذا "الغد"، ظناً مني ان في الغد معنى المستقبل، وفي المستقبل املٌ، وفي الامل نجاحٌ، وفي النجاح خيرٌ... غير انني اتفاجأ اليوم بالمعنى الجديد لهذا "الغد"، اذ به غدٌ يشبه ماضيه وحاضره... حتى ضاع الوقت!


دنيز يمين



تحدثوا عن تجاربهم السابقة وعن لبنانٍ جرّحته سنوات عناد حربي طوال، تحدثوا عن درسٍ لقنتهم اياه اعوام الذل والانقسامات، تحدثوا عن الفتن والحروب الاهلية وخطورة المذهبية والطائفية بعدما ضاقوا ذرعاً بها، اما اليوم، فان كرة النار تتدحرج مشتعلة من جديد نحو هاوية المجهول وهي تدور حول نفسها كدوران اعصار مجنون افقد قادة هذه الكرة اتّزانهم حتى تناسوا درس التاريخ القريب لا البعيد.

استثناء الطبيعي

لن استفيض في كتابة كلمات اليأس والاحباط خصوصاً ان من يديرنا من بعيد، واتخيّله حاملاً آلة التحكم عن بعد يضغط حيناً على زرّ التهدئة وعلى زرّ الفوضى حيناً آخر، يعمل على تخديرنا تدريجياً حتى نعتاد على حال الاستثناء، استثناء التوتر الامني، استثناء حرب القناصة، استثناء حرب المخيمات، استثناء الانقسام السياسي، استثناء حال الاغتيال، استثناء الازمة الاقتصادية، فأضحى الاستثناء طبيعياً في دولة استثنائية في فهمها للديمقراطية وتطبيقها للحريات وانتهاجها للتعايش.


سقط مفهوم لبنان

"حرب الشوارع" في بيروت تعود لتحيي قواميس عسكرية زادت في قسواتها مصطلحات "الشرقية" و"الغربية" والهاون والـ أر.بي.جي والسّنة والشيعة والمسيحيين والدروز فشحّت طرق العاصمة بناسها بينما ازدحمت دكاكينها ومحالها زحفاً وراء الخبز، اللقمة التي لم يستطع اللبنانيون الاتحاد ولو باسمها. نعم، ان التخدير الذي بدأت خطته الذكية قبل 30 عاماً، انسى اللبنانيين "لبنان" و"سلاح الجيش اللبناني" و"المواطن اللبناني" وسط ازمة ثقة فادحة مصيرها الطبيعي الطلاق الحتمي، تماماً كما تؤول اليه خيانة احد شريكي السقف الواحد بعدما تعهدا سوياً بالاخلاص المتبادل على قاعدة التفاهم والتعايش والمحبة، فتأتي الخيانة لتنكث بالوعد ولذلك ثمن باهظ، وثمنه انهيار السقف واساساته بينما لم يعد لمقولة "عفى الله عمّا مضى" اي اعتبار.

طرف مجهّز

تناحر لبناني اضحى اشبه بتناحر فتح وحماس او حتى بين الصدريين والقوات العراقية، ولو ان ما تتميّز به ساحتنا المستباحة انها خالية من الجيوش الاجنبية، ومعاذ الله ان تصبح كذلك، غير اننا على الدرب سائرون مع انجرارنا المستفيض في كراهية الماضي ورهانات التاريخ والانتقامات والاحقاد، بين مسلمين شوّهوا بآدائهم الاسلام-المسالم، الاسلام-المحبة، الاسلام-الحضارة، وبين مسيحيين يدفنون مسيحهم في كل كلمة تشهير يغازلون بها خصمهم السياسي.
اما "كفى" فلم اعد اؤمن بفعاليتها، لانها لو طُبّقت كانت لفترة وجيزة موقتة علماً انها تعني الحدّ مما نحن عليه ابدا. لم اعد اؤمن بمقدرتنا على انتهاج مبدأ السلم والحوار والحضارة خصوصاً ان سلطة التوعية والتنبيه والتثقيف، سلطة الاعلام والمعرفة، اصبحت طرفاً اساسياً في صراع القبائل اللبنانية، وسلاح اعلامنا غير الشرعي كلمة سوداء من احرف شرّ وضغية وتحريض وفتن، فيساهم باسلوبه المنحرف في تقوية ميليشيا على اخرى ومنظمة على اخرى وقبيلة على اخرى لزيادة الكرة اللبنانية اشتعالاً.


لن الجأ لسفارة كما يفعل الاخرون لان حقي في البقاء ولن اشارك في الحرب الاعلامية لان قلمي جزء من هويتي ولن ادعم فريقاً ضد آخر بعدما "ضاعت الطاسة" بين تحالفات الامس وانتقامات اليوم، لكنني قد التزم المراقبة والصمت في حلبة لا تعترف بالكلمة كمخرج الى الحلّ انما تتشبّث بمفاهيم الماضي من امن ذاتي وطارٍ شخصي ونفوذ فدرالي.


"عدم الافلات من العقاب"... شعارٌ قد يحمي اعلاميي الغد


اعتداء ثم اعتداء ثم اعتداء... والحلّ في الاستنكار! هكذا تعاطى اللبنانيون مع ظاهرة الاعتداء على الصحافيين منذ حوا المئة عام بعدما اضحى الاعلام مصدر لـ"فشة خلق" ذلك او تلك، فيما المسؤولون غائبون والمعنيون مطموسو الحقوق والكلمة تتأرجح بين حبال الاعدام.
==============
دنيز يمّين

كما جرت العادة، للاعلام كأس مرة يتذوقها في كل حالة من حالات التوتر الامني السياسي غير ان ما نسمعه من شجب واستهجان في هذا الصدد لا يكفي قطعاً بأخذ حق افراد ومؤسسات، ليسوا في النهاية سوى موظفين واداريين يسعون لتأمين لقمة عيشهم كغيرهم من المواطنين اللبنانيين ولو ان الطريق التي يسلكونها تبقى اكثر وعورة وخطورة، اذ تتوسط خطيّ الحقّ والكذب، التجييش والتهدئة، السلم والحرب.

عزمٌ وتصميم

"عدم الافلات من العقاب"... مبداٌ محقّ اطلقته جمعية "مهارات" قبل عام انطلاقاً من حرص الجمعية التي تعنى بحرية التعبير وقضايا الاعلام، على ارساء نمط المحاسبة الحقوقية لمن يتعرّض لمؤسسات الاعلام والاعلاميين، غير ان تجربة لبنان في الحق والقضاء خصوصاً بعد اقرار الدولة لقانون العفو العام سنة 2005، تعثّر المساعي الاهلية في ذلك. "صُدمنا لما حصل لقناة المستقبل ومصوّر جريدة "صدى البلد" وقنوات الـ. او.تي.في والمنار في الشمال، وحملة عدم الافلات من العقاب التي نحن بصدد المضي بها قائمة اليوم بعزم اكبر رغم الصدى المتواضع الذي تلقاه في لبنان". كلمة للمديرة التنفيذية في مؤسسة "مهارات" رلى مخايل، تعبّر عن الثقل الواضح الذي يقع على كاهل المجتمع المدني في كل مرة ينتفي دور المؤسسات المسؤولة عن صون حرية التعبير، التي تتبّع "غضّ النظر" سياسة تنفيذية.


... لخلق الوعي

شرحت مخايل ان الاحداث الماضية اظهرت تمادي المتعدين الخطير على من ينقل لهم الخبر والتطورات، ما يؤكد "ضرورة تكريس مفهوم المحاسبة والمساءلة لكي نحدّ من هذه الظاهرة". وتمضي "مهارات" في سعيها الى خلق وعيٍ لدى الصحافيين الشباب والقانونيين، بحسب مخايل، حتى انتشار شعار "عدم الافلات من العقاب" في كل المؤسسات الاعلامية ومنهم الى المؤسسات الرسمية المعنية. ويأتي هذا المسعى التوعوي نتيجة تحرّك اهلي وُلد غداة اليوم العالمي لحرية الصحافة ايار 2007، بعد ان اصبح قتل الصحافيين كالضغط على زرّ الكتروني لا يُكشف مصدره.

رصد للانتهاكات

"دورنا يكمن في رفع الوعي وتحريك المجتمع ونقل الفكرة وتأمين انتشارها في وجه جسم اجتماعي فاسد". هذا ما اكدته مخايل التي عبّرت عن تصميم الجمعية على تجسيد افكارها بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية لتدوير هذه الافكار وايصالها، غير ان اعتراف المجتمع الاهلي بطاقاته المحدودة سبب وافٍ لضرورة تحرّك الجهات الرسمية التي تفتقر لنية وعزم تتمتع بهما الجمعيات الكفوءة. من هنا، وانطلاقاً من محدودية صلاحيات المجلس الوطني للاعلام المرئي والمسموع وشكلية الجسم الوزاري الاعلامي الذي انطلق مبدأ الدفاع عن الحريات الاعلامية من جراء ممارساته السابقة، بقي لـ"مهارات" باباً واحداً هو الصحف اللبنانية، حيث تنشر الجمعية نهاية كل شهر، مرصداً للانتهاكات الاعلامية اللبنانية، ينتظر صدوره الرابع نهاية الشهر الجاري، بالتعاون مع منظمة الاونيسكو في خطوة قد تحدّ من خروقات لا يوجد من يذكر ظواهرها حتى الان.

عدالة لبنانية مبتورة لم تعوّض حتى الان عن ارواح هؤلاء، خصوصاً انهم لم يعودوا اليوم ضحية قلم يكتب ضد عدوّ موحّد او محتلّ متطفّل كما كان في السابق، بل اضحوا ضحايا من يختلف معهم في الرأي والتصرّف والمنطق اثر انقسام سياسي فادح يحذو حذو العراق وفلسطين وافغانستان وباكستان...

"إرتاحت النّفسيّات ولكن"... قولٌ جمع شهود حرب الشوارع


"حَلّوها ع كبير بس ما حلّوها ع زغير"... حكاية اهل الكورنيش والكولا حكاية اناس وقعوا منذ اسبوعين في اتون نار لم يتوقعوا ان يلسعهم احد السنتها، على اساس ان حروب الماضي اندثرت، وان اللبنانيين لا يريدون سوى لبنان، ولبنان فقط! حدث ما حدث... لبنان اليوم ينهض من جديد بشخص رئيسه المنتخب العماد ميشال سليمان وفي العماد املٌ كبير، فماذا يطلب سائق التاكسي من جمهورية الـ2008؟ والميكانيكي؟ وصاحب فرن الصاج؟ وصاحب دكان الحيّ؟ وابو الفلافل؟
==============
دنيز يمّين

تُوّج اتفاق الدوحة الاحد بتربّع سليمان على كرسي الرئاسة المشتاق لمن يملأ وحدته، غير ان وقع التغيير الجذري من حال الفتنة في الشوارع وحربها الطائفية الى حال استعادة المؤسسات الدستورية نشاطها، لا تتبين آثاره الا على وجوه لبنانيين ضربتهم رصاصات الاخوة في الوطن وصرعتهم اصوات الهلع والوجع.

تحسّن الوضع نسبياً

"هدأ الوضع بشكل ملحوظ وفرحنا بحلحلة الازمة السياسية غير ان الارض هنا لا تزال مسمومة". كلام لمصطفى عيتاني الذي عرّف عن نفسه كمنتمٍ الى تيار المستقبل، وصاحب متجر للادوات المنزلية في سوق كورنيش المزرعة، عبّر عن انفراج انتظره اللبنانيون سنة ونصف قبل ان تصل الامور لذروتها وتحدق الازمة بسنة وشيعة لبنان في العديد من المناطق والشوارع والاحياء المختلطة. رأي لم يخالفه علي ابراهيم، صاحب دكان الحيّ المجاور حيث لحركة امل نفوذ واضح، اتى ليثني على التخوّف من "استقرار مستجدّ" فقدته المنطقة منذ اسبوعين، وقال ابراهيم "المبيع يتحسن غير ان الامن في الميدان اقرب الى الشلل".

كلام الصّواب

تصوّرات وتقديرات للوضع في المدينة المنتكسة رصدتها جريدة البلد يوم الاثنين حين تحدّث الاهالي عن اشكال ليلي حدث فجأة بين شباب طريق الجديدة وشباب من سكان الخندق الغميق على خلفية انتقامية اعادتنا الى احداث بيروت الاخيرة، بحسب ما وصفها سائق تاكسي "دوّيم" في المنطقة. عبّرت توصيفات "اهل البيت" بدقة وصواب عن جوّ "لا يزال مسموماً" كما وصفوه، فلم تلبث احاديث النهار ان انتهت حتى اتى اشكال ليل الاثنين-الثلثاء قرب جامع جمال عبد الناصر بعيد القاء السيد حسن نصرالله كلمته في ذكرى التحرير، ليجرّح الهدوء الحذر."العماد سليمان آدمي ولن يدعوه يكمل عهده"... توقّعٌ سياسي ادلى به الميكانيكي زياد الداعوق وفي عيونه يأس من المجهول. وسعيد ايضاً، بائع افضل الخرضوات، يؤكد ان "الحلّ مش عناّ" وان الاقتصاد لا يزال مجمداً في منطقة الطفولة فيما التفاؤل غير موجود مثيله مثيل التشاؤم. اما خليفة، ابن صيدا وصاحب "اطيب فلافل"، فناهز عمره العقد السابع فيما تفاؤله لم يتزعزع يوماً بل مضى يقول واثقاّ "انتهت القصة وكلو نحلّ".

جدل 1400 عام

صحيح ان في نظرتنا للحياة تفاوتاً، واننا متفائلون تارة ومتشائمون تارة اخرى، غير ان ما اجمع عليه كثيرون في سوق الكورنيش الذي استعاد طبيعة حركته رغم كل شيء، عن التوتر النائم في نفوس الافرقاء، يحول دون استرجاع المدينة هدوءها واستقرارها وحادثة جامع عبد الناصر دليل على ذلك. فإما ان يطفئ الجميع "جدل 1400 سنة من الاختلاف السني-الشيعي" كما عبّر وسام، وإما ان تبقى منطقة ما بعد التماس، مشتعلة بهباتها المتنقلة... لعلّ مجيء العماد يعيد المياه الى مجاريها محافظاً على رتبته في وجه التحيّز والانزلاق.